كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال: {انفروا خفافًا وثقالًا} قال المفسرون: أي خفافًا في النفور لنشاطكم وثقالًا عنه لمشقته عليكم، أو خفافًا لقلة عيالكم وثقالًا لكثرتهم، أو خفافًا من السلام وثقالًا منه، أو ركبانًا ومشاة، أو شبانًا وشيوخًا، أو مهازيل وسمانًا، أو صحاحًا، ومراضًا، والصحيح التعميم، وأن المراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها.
قال الأكثرون: ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعليّ أن أنفر؟ قال: ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله: {ليس على الأعمى حرج} [النور: 61] وقال مجاهد: إن إبا أيوب شهد بدرًا مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول: قال الله: {انفروا خفافًا وثقالًا} فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلًا. وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليًا على حمص فلقيت شيخًا كبيرًا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك. فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالًا إلا أنه من يحبه الله يبتليه. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب ضرر. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن أنس قال: قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال: ما أسمع الله عذر أحدًا فخرج مجاهدًا إلى الشأم حتى مات. وقال السدي: جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيمًا سمينًا وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه {انفروا خفافًا وثقالًا} فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} [التوبة: 91] الآية؟ وقيل: لا حاجة إلى التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم خلف من النساء والرجال أقوامًا فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات. فمن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى. ولقائل أن يقول: لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى. ثم قال: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} وفي إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهاد، أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء.
{ذلكم خير لكم} يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل.
وإنما قال: {إن كنتم تعلمون} لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق. ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين {لو كان عرضًا قريبًا} قال الزجاج: أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه. والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والمراد بالقرب سهولة مأخذه {وسفرًا قاصدًا} أي وسطًا بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده.
والشقة المسافة الشاقة الشاطة، ووصف المسافة البعيدة بالبعد مبالغة نحو جد جدّة. وفحوى الكلام لو كانت المنافع قريبة الحصول والسفر وسطًا {لاتبعوك} طمعًا في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عندما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخبر فكان معجزًا. و{بالله} متعلق بـ {سيحلفون} أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين {لو استطعنا} وقوله: {لخرجنا} سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعًا. قيل: في الآية دلالة على أن قوله: {انفروا} خطاب للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذرًا في التخلف.
قال الجبائي: فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعًا للقتال عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل. وقال الكعبي: زائدًا عليه فإن قيل: لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا قدرة له أولى. وأيضًا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن. وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادرًا في هذا الزمان على أن يفعل فعلًا في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه. فالقوم الذين تخلفوا ما كانوا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال. ولقائل أن يقول: إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال.
قال في الكشاف {يهلكون} بدل من {سيحلفون}
أو حال أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، أو حال من ضمير {خرجنا} أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة. وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية. قلت: وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل: لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم.
ثم بين أن ذلك التخلف من بعضهم كان بإذن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله: {عفا الله عنك} فإن العفو يستدعي سابقة الذنب. وبقوله: {لم أذنت لهم} فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى.
فعاتبه الله بطريق الملاطفة كما تسمعون. والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى. وقوله: {عفا الله عنك} إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي. وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله: {لم أذنت لهم} واردًا على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لاسيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا.
قال كثير من العلماء: في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام أذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصيًا بل كافرًا لقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} [المائدة: 47] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقًا وإنما منع إلى غاية هي قوله: {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعًا في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت قوله: «ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور.
قال قتادة. عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} [الآية: 62].
قال أبو مسلم: يحتمل أن يريد بقوله: {لم أذنت لهم} الإذن في الخروج لا في القعود، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عينًا للمنافقين على المسلمين، وإذا كان هذا محتملًا فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود. وقال القاضي: هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم.
ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا} أي في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك. ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقيل: إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود.
وعلى هذا يمكن أن يقال: معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله: {والله عليم بالمتقين} رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم. ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال: {إنما يستأذنك} الآية. وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائلة غير مؤمن بالله تعالى، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين. ومعنى قوله: {فهم في ريبهم يترددون} أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطرفين. وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازمًا أولًا، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقًا فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولًا وهو اعتقاد المقلد. وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحًا عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كانت الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر.
قال المفسرون: إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلًا. ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} قال ابن عباس: يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف.
قال العلماء: وفيه إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدّة.
{ولكن كره الله انبعاثهم} أي انطلاقهم {فثبطهم} والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به. ومعنى الاستدراك أن قوله: {ولو أرادوا الخروج} يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل: ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك. وقد يقال: تأكيد الذم بما يشبه المدح. ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم. وههنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا} وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي، وكذا على قول أبي مسلم. ومما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا} [التوبة: 83] وقوله في سورة الفتح: {سيقول لك المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم} [الفتح: 15] إلى قوله: {قل لن تتبعونا} [الفتح: 15] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من الرسول صلى الله عليه وسلم إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتمام التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم يأذن لهم فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم.
قال معتزلة البصرة: في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة.
قالت الأشاعرة: معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء. وزيف بأن العدم يا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلًا للحاصل. ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلًا للحاصل؟ وأيضًا عدم الشيء المخصوص ليس عدمًا محضًا. أما قوله: {وقيل اقعدوا} فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرًا بالقعود، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر {اقعدوا مع القاعدين} فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله: {لم أذنت لهم} أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم. ومعنى قوله: {مع القاعدين} ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت.
{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة- أسفل من ثنية الوداع- ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا} فيكون استثناء متصلًا من أعم العام، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيرًا إلا خبالًا ضعيف. والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه، وللمفسرين عبارات؛ قال الكلبي: إلا شرًا. وقال سلمان إلا مكرًا. وقال الضحاك: إلا غدرًا.